كُنتِ خَيْرَ رؤيةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... تَأْمُرينَ بالتعددية
Monday, 18/01/2016, 17:17
العلمانية بصفتها رؤية سياسية، تطرح نظاما يهتم بشؤون المواطنين من خلال دولة مدنية حديثة. العلمانية تنطلق في رؤيتها السياسية من خبرة الانسان من تجاربه السياسية السابقة من ايديولوجيات اخرى و في مقدمتها ايديولوجيات سياسية ثلاثة، الا وهي الدينية و الاشتراكية الشيوعية و القومية الى جانب اطياف و تفرعات شتى من هذه الايديولوجيات.
العلمانية هي وليدة الفكر البشري عندما يبدع في اجمل صوره في اجواء الحرية، وهي نتاج العقل البشري الجمعي ، ولقد نمت العلمانية وتطورت تناغما وانسجاما او تجسدا لنظرية التطور و التغيير المادية والجدل الدياليكتيكي، بمعنى ان العلمانية ليست الا نتيجة حتمية او كما اود ان اعبر عنها بانها تمثل نقطة الانقلاب للتغيرات الكمية و التي فيها تتحول هذه التراكمات الكمية الى التغيير النوعي في صورة رؤية سياسية جديدة و حداثوية هي العلمانية ..
اذن فان العلمانية و طبقا لهذا الفهم ليست الا تعبيرا عن عالمية الفكر البشري و طبيعانيته و تتماشى مع العقل و المنطق وليست حدثا طارئا على الفكر البشري وهي قطعا ليست نزهة او نزوة فكرية عابرة رغم المحاولات الشرسة من قبل اعداء العلمانية وخاصة الدين السياسي الذي يجد موقعه المريح مهددا من قبل رغبات التجديد و التغيير لدى الانسان المعاصر الذي بات في حكم الممسوخ و المتلاشي.
الفرق الجوهري بين العلمانية و الدين السياسي و حتى الايديولوجيات السياسية الاخرى و ان بدرجات متفاوتة الحدة، هو انها اي العلمانية تنطلق من الانسان كونه الاصل و المقدس او انها تستعيد الوضعية الصحيحة للمعادلة السياسية الواقفة على راسها وقدماها في الهواء لدى الدين السياسي، بحيث تستقر و تقف على قدميها و كما يجب.
الدين السياسي يفرغ الانسان من قدسيته و من حقه الكامل في حياته الدنيوية لصالح آخرة ليس لاحد بما فيه الدين اي سلطان عليها ولا حتى برهان لوجودها. بالمجمل يمكننا القول بان الدين السياسي يمجد الغائب و الغيبيات و يقدسها بينما يحقر الانسان و يجعله عبيدا ذليلا في علاقة العابد و المعبود (الاعتراض هنا على استغلال هذه العلاقة الروحانية سياسيا) ... لقد وصل الفج الديني الى حد ان جعل من المؤمن يعتقد واقعا ان الاخلاق لا يمكن اكتسابها الا من نافذة الدين و ما هذا الا هراء في هراء لان الاخلاق هي من صنع الانسان وهي الاخرى تتغير مع الزمن حال كل الموجودات..بمعنى ان الاخلاق اصلا لا تصلح ان تكون من الثوابت بل ان لكل زمان ومكان اخلاقياتهما، وعليه فان الدين بالكاد يصلح حاضنا للنظام الاخلاقي لطبيعة الدين الجمودية فكل شيء في الدين ثابت لا يتغير.
الواقع يؤكد لنا و بشكل لا لبس فيه بان انسانية الانسان تتحق و دون اية صعوبات خارج الدين، ولست اعني بان لا صلاح في اية جزئية في النظام الاخلاقي الديني طبعا و يا ليت الدين يقف عند حدود العقيدة و المسائل الكونية و الخلق و الخليقة دون اسقاط احكام الغيبيات على القوانين الوضعية بقوة العقيدة وبطش الاله المؤنسن.
ان ما يميز رؤية سياسية عن غيرها انما هي ماهية قيمها ومبادئها و اليات ممارسة السياسة عمليا ... ليس خافيا على الانسان الحديث مدى الهوة بين رؤية و اخرى وعليه كان من الطبيعي و المنطقي ان تتصارع هذه الرؤى فكريا و في غالب الاحيان اخذت و وتاخذ هذه الصراعات اشكالا دموية مرعبة تصل الى حد الفناء والاقصاء وهذا معيب جدا للكائن البشري الذي بسلوكياته هذه انما يثبت عدم تحرره من عالم الحيوان و يؤكد ما ذهب اليه حقيقة، تشارلز داروين في نظريتة حول الاختيار الطبيعي و الذي فيه الكثير من القسوة، و بلاء الانسان يكمن في انه لم يتحرر من فلك نظرية الاختيار الطبيعي بعد، بل و بكل اسف يجسدها في كل يوم في العراق و في سوريا و افغانستان و باكستان و نيجيريا و اماكن عديدة اخرى و قوى عظمي ليست استثناء.
تتبنى العلمانية نظرة الفلسفة المادية في ان كل شيء متغير و كل شيء مرتبط بكل شيء و ان الشيء هو ..هو وهو ليس هو في نفس الوقت و الشيء يحمل بذور فنائه في داخله. يترتب على هذا ان العلمانية لا تتعامل مع المطلقيات و من الجدير بالذكر هنا انها لا تهتم اصلا بالغيبيات و المسائل العقائدية في الدين. فمسالة وجود الله من عدمه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا شان للعلمانية بها لان العلمانية هي رؤية دنيوية يهمها الانسان وشؤون حياته الدنيوية، اما الدين و الله و ما لهما و بينهما و بين الانسان من علاقة فذلك شانهم.
واهم و متوهم من يسند الى العلمانية ضدية الدين و محاربته. العلمانية تتقاطع حتما مع الدين السياسي او على وجه ادق الجانب السياسي من الدين و على قدر انخراط الدين في السياسة وهنا وهنا فقط يحدث و كامر طبيعي تصارع الافكار ولكل من الدين السياسي و العلمانية كامل حريته و حقه في تقديم رؤيته كبديل افضل.
الاشكالية التي تحدث هنا هي في الحقيقة ليست مبدئية بل هي اشكاليةعملية بامتياز في تنافس العلمانية و الدين السياسي على السلطة السياسية ... اذ ما هي قواعد اللعبة السياسية المشتركة والتي يقبل بها الطرفان؟
مشكلة الدين السياسي في السياسة العملية لا تكمن في ان الدين بحد ذاته لا يصلح للسياسة ...لا ابدا...ولكن المشكلة تكمن في دخول الدين السياسي بكليته حلبة الصراع السياسي ...اعني بجانبه العقائدي ايضا و ليس الدنيوي (الشريعة) فقط، وهو بكامل لباسه المقدس كورقة نقض الفيتو يشهرها متى و انى ما ضاقت به السبل و دون ان يقر للجانب الاخر نفس الحق، وهذا ما يجعل العملية السياسية عرجاء.
اذن فالدين يطرح نفسه نظاما سياسيا للدنيا و الاخرة على حد السواء بينما تطرح كافة الرؤى السياسية الاخرى نفسها انظمة للحياة الدنيا و تشتغل مع القوانين الوضعية حصريا...قوانين لا تلبس رداء القدسية الثابت اللامتغير بل تعمل ضمن منظومة التغيير المستمر.
لكي نفهم اشكالية الثابت و المتغير قد يحتدم الصراع السياسي بين الفريق العلماني و الديني على مسالة الميراث التي تنظمها الشريعة بتفاصيل دقيقة و بشكل يتعارض تماما مع رؤية العلماني ....هنا قد يتبادر الى الذهن حسنا ندع الاكثرية تقرر طبقا لمبادىء الديمقراطية .... ياليت الامور كانت بهذه البساطة، لان الديمقراطية لا يعني بها اضطهاد الاكثرية للاقلية بالغلبة العددية بل هناك اساسيات يجب ان يكفلها الدستور للمجتمع الديمقراطي الا وهي ضمان الحقوق الاساسية لمختلف تجليات الاقليات اعني القومية و الدينية و العرقية ...الخ
لقد راينا مثالا بل امثلة حية على ظهور هذه الاشكالية في واقع الحال، ففي الجزائر دخل الاسلاميون الانتخابات مستمتعين و مستخدمين حقهم الديمقراطي وفازوا فيها و اعلنوا على الفور نيتهم في الغاء الديمقراطية ...!!! مما حدى بالمنظومة العسكرية في البلد الى التعامل معهم عسكريا و ابعادهم من هذا الحق الذي اسيء استخدامه. و تكررت التجربة في مصر عندما وصل اخوان المسلمون الى دفة الحكم و تولى السيد مرسي رئاسة مصر، حيث لم يتاخروا كثيرا في ممارسة ما ينافي الديمقراطية ومباديء التعددية، في اعمال اجرامية بحق القبطيين في مصر وكادت الامور ان تفلت من عقالها لولا يقظة المؤسسة العسكرية بقيادة السيد عبد الفتاح السيسي الذي عالج الموقف بحنكة سياسية عالية.... اذن فالديمقراطية و اسس بناء الدولة المدنية وفق النظرة العلمانية لا تعني بتاتا الاحتكام بشكل اعمى الى الكثرة العددية كيفما شاء.
بكل اسف قدم العراق الجديد اسوء اشكال التعددية بحيث بات لا مناص من القول بان حال الاقليات العراقية المختلفة لم يكن على هذه الدرجة من السوء في ظل الديكتاتورية المقيتة ...وهذا معيب جدا لقادة العراق و اقليمه الكوردي على حد السواء...هذا النموذج السيء اتى بسسب تجميع الذي لا يجتمع ... المحاصصة الطائفية عمرها لم و لن تجتمع مع مفاهيم التعددية و العدالة الانسانية لان هذا النموذج السيء لا يتخذ من المواطنة معيارا لحقوق الانسان بل اتخذ ويتخذ من الطائفة معيارا و من الحزب دينا.
تعتبر التعددية ركن اساسي من اركان العلمانية، على اساس قبول الجميع على قدم المساواة في الحقوق و الواجبات و بغض النظر عن اسباب هذه التعددية ، فكرية اكانت ام عرقية او دينية و الى غير ذلك من اوجه.
تشكل الحرية ضلعا مهما من اضلاع هيكلية العلمانية. للفرد و الجماعات حرية التفكير و الراي والعقيدة طالما مورست الحرية ضمن حدودها الدستورية و دون التجاوز على الحريات العامة و حريات الاخرين قسرا و اضطهادا.
العلمانية تتبنى الية الديمقراطية في التداول السلمي للسلطة السياسية و في العمل السياسي وتنبذ العنف السياسي بكافة اشكاله.
هل هناك فرق بين العلمانية و الالحادية؟ نعم هناك فرق مهم و عملي بين الالحاد و العلمانية ...رغم ان الكثيرين يجهلون او يخلطون عمدا الاثنان معا ... العلمانية لا تدعوا الى فصل الانسان من الدين بل الى فصل الدين من الدولة بمعنى عدم جواز وقوع الدولة تحت تاثير الدين لان في ذلك اشكالية كبرى في بناء الدولة المدنية التي تتبنى التعددية مبداء اساسيا بين مبادىء الدولة الحديثة. هذا لا يعني ان العلمانية ترفض كل ما في الدين من قيم اخلاقية قد يصلح بعضها و قد لا يصلح البعض الاخر للاستئناس بها في تشريع قوانين الدولة المدنية و من الجدير بالذكر ان العلمانية ترفض فكرة ان الدين وحده مصدر الاخلاق بل تؤمن بان الاخلاق ممكنة جدا خارج الدين وعليه ليس كل متدين خلوق بالضرورة و ليس كل علماني او حتى لاديني غير خلوق بالضرورة و ربما الاهم من كل هذا فان الاخلاق مسالة نسبية لا مطلقية فما يعيب هنا قد لا يعيب هناك و العكس صحيح وما يعيب اليوم ليس بالضرورة ان يكون معيبا غدا ايضا ... لعله كان من نافلة القول بان الانسان سابق في منظومته الاخلاقية على الدين الذي اختطف من الانسان نظامه الاخلاقي وحوره و اعاد صياغته تسخيرا لخدمة الدين قبل الانسان وهذا ما نراه جليا في غلبة المحرمات و الممنوعات على نظام الاخلاق الديني و بالكاد ترى حديثا عن المباحات و المسموحات! لو دقق المرء اخلاقيات الدين لوجد و دون عناء كثير التناقضات الغريبة العجيبة فعلى سبيل المثال تجد ان الاسلام في منظومة اخلاقياته يعد و يوعد الشيء ذاته في عملية معكوسة غريبة عجيبة ،اذ يتوعد كل من يتعامل مع الخمر و الجنس (خارج اطر الشريعة طبعا) و يرجع و يوعد المؤمن بانهار من الخمر وجنات خلد فيها ما طاب له من حور العين و الجنس وبوفرة وغزارة !!!! هل من يجراء على ان يتسائل كيف يستقيم الامر هنا، في ان يكون محرما في مملكتنا ما هو حلال في مملكة الله ...!
الالحاد شيء اخر تماما اذ يبدء من حيث تنتهي حدود العلمانية.... اعني ان الالحاد يعتني بالغيبيات وهو الطرف النقيض للدين اذ ان الملحد لا يؤمن بالله الديني اي انه لا يؤمن بوجود الله على الاقل كما تصفه ما تسمى بالاديان الابراهيمية. اذن فان الملحد منشغل بالاسئلة الكونية و الوجودية من الناحية الفلسفية البحتة وقد تجد الملحد بين كافة الالوان السياسية و ليس العلمانية فقط. فكما شددنا على الامر سابقا فان العلمانية رؤوية دنيوية خالصة تاركة المسائل الروحانية و الغيبية و الوجودية شانا فرديا خالصا في حدود العقيدة، و الاكثر من هذا تضمن العلمانية حق الفرد و الجماعات في ممارسة شعائر و طقوس عقيدتها بحرية غير منقوصة الا ما تعارض و بشكل فج مع الحريات العامة و لوائح حقوق الانسان. فمثلا قد ترى دولة علمانية ان ظاهرة ختان الاناث تتضارب مع حقوق المراة وتراها ظاهرة فجة و جريمة ترتكب بحق المختونة، فتلجاء الى تجريم عملية ختان الاناث رافضة بذلك تماما مناشدة الوالدين حقهما في التراث و العادات و التقاليد.
لدينا الراي بان العلمانية قادمة لا محال وذلك رغم كل تخرصات هلوسة الدين السياسي الذي يلجاء الى الاساليب الملتوية في التشويش على عقل الانسان الذي بدء يصحو من عالم الدين السياسي المليء بالاوهام و الخرافات.
وكلام مفيد انني حاولت ان اكون واضحا بانني لم ابغي ان اتناول الدين كدين و نسجل احترامنا و دون تردد لحق الانسان في عقيدته الدينية او المذهبية في الامور الروحانية ومسائل الكون و الخلق و ما تناولناه يخص السياسة في الدين وهنا ليس للدين السياسي الا ان يحترم حقنا في الراي وان اختلفنا معه لان السياسة شآننا جميعا و مصيرنا جميعا ولا ينبغي ان نلبس السياسة ثوبا مقدسا لا يليق بنا و لا بها.
اخيرا وليس اخرا... كفانا مسخرات وتمثيليات سياسية مضحكة مبكية ... وكفانا ضحكا على الذقون ... تحلوا بما يكفي من الشجاعة و الضمير الانساني ايها الساسة و القادة واسلكوا طريقا اثبت جدارته وتفوقه على كل الطرق الاخرى، رحمة بالانسان الذي عانى ما لتطيقه الجبال ...العلمانية هو الحل و كل تاخير انما هو استمرار لمشقة الانسان ومعاناته و كل تاخير يجلب المزيد من الخراب و الدمار وزهق الارواح. اعلموا ان حاجة الله فيكم هي غير حاجة الانسان فيكم وكل خلط ليس الا جهلا او تجاهلا ولست ادري ايهما هو الاسوء وحذاري ...حذاري ايها العلماني من التدين او الاصولية في العلمانية و كنت (العلمانية) خير رؤية اخرجت للناس تامرين بالتعددية وتنهين عن الظلم وتؤمنين بالحرية ......
نووسەرەکان خۆیان بەرپرسیارێتی وتارەکانی خۆیان هەڵدەگرن، نەک کوردستانپۆست