إنوجاد الأنا و التمثّل الكوني في( مجموعة سقوط الكون)
Friday, 26/11/2010, 12:00
قراءة : شاكر مجيد سيفو
إنوجاد الأنا و التمثّل الكوني في( مجموعة سقوط الكون)
قراءة : شاكر مجيد سيفو
ما يشاكل رهبة العنونة لمجموعة - سقوط الكون - للشاعر صلاح جلال هو هذا التصريح المدوّي في ميتاكارثيته وجميع مقولاته الشعرية، وإحساسهِ الفلسفي الأنوي الحاد بالحياة والكائنات والوجود والكون. في ثيمة الإهداء يرسل الشاعر بنية تعاضدية قلقة يسوَّرُ من خلالها قطبين متنافرين في المعنى والمبنى، لكنّه سرعان ما يتدخل في صناعة المعنى الكلي لخلاصة الإهداء ( ..... لكي نتصل في الفضاء صانعين عالمنا الجديد / حيث تنبت وردة فلسطين فوق الحجر... ) إنّ نصّ الشاعر صلاح جلال هو نصّ الفكرة بامتياز، يمنحه شرعية فلسفية في معطىً شعري تتداخل في صناعته تراكمات سسيولوجية سايكوثقافية، تبدأ من بياض الكلام، تُخرج الشِعر من هدوئه إلى قلقه الميتافيزيقي، فالكتابة الشعرية عند صلاح هي- كتابة على المحو، من جهة، وهي كتابة تبدأ من بياض أي أنها تبدأ بفعالية الكلام الداخلي، إنّ الكتابة الوحيدة أو- الكلام الوحيد- التي تبدأ من بياض هي ما صدرت عن ادم فقط- كما ذهب "باختين": ( زمن+ زمن ( ) / ومرآة الطفولة في أرجوحة الفلسفة و((الوجود والعدم)) / ........... ورجعت ورقة العالم إلى شجرة أول أب / قتل آدم حواء / وجففّت التفاح (آدم) الآن الآن شجرة تفاح هي وطن فلسفة الموت/ إنّ هذه الأرض كوّنت شجرة فلسفة موت الوجود..ص32)
تتصل نصوص المجموعة بحبكة لغوية بنيوية ونسيجية داخلية صارمة في كليانية انزياحات المعنى والدلالة وحتى المركّب اللساني المفتوح في مفهومه الاتصالي ((الفاكس))، ويرشح عن هذه التراكمية الميتافيزيقية، هذا المعطى المعرفي الكوني الذي يشتغل على أنساقه وموجات بثّه الفلسفي والشعري, يجنح الشاعر صلاح جلال في نصوصه - سقوط الكون - إلى ذلك الولع الرهيب بقراءة الفلسفة شعرا، من الداخل السيكولوجي، وتتجسد هذه القراءة في منظومة من العلامات والإشارات الداّلة على جنون الشاعر وعبثيته المتمظهرة في فوضى شكلانية الكتابة النصية خارج الاستعمال العادي للمفردة وحمولتها الدلالية ونزوعها العاطفي، إنّ الشاعر يندمج كلياً في هذا التمرّد الوجداني والسحري والغائيّ والغنوصي والميتافيزيقي، ولأنّه يرى ( الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة اللغة، فأنّ الفلسفة هي نسيان لهذا الوجود عزيز الحدادي في موضوعة الفلسفة والشعر) إنّه يكتشف التجلّي الحقيقي لحياة الفلاسفة الذين يكتب لهم ومنهم وبخاصة هايدغر، إنّ الشاعر صلاح جلال يحيا شعريا على هذه الأرض،( كما يقول "هايدغر" مستشهداً بـ"هولدرلن"،) لكن كيف يمكن للوجود أن يكون شعريا بجوهره؟ هذا ما يكتب فيه صلاح جلال في الفاكس الثاني لفلسفة الموت عند مارتن هيدجر وهو يناديه ويخاطبه وكأنه يجلس قبالته: ( هيدجر.. هيدجر.. أنظر وقد صوّر جغرافية اللاحقيقية؟! / ( الحقيقة ) خنقت ماهية الوجود / أية كلمة بقيت أسمها المدينة؟ / مَنْ قرأ على الصخر جملة حب؟ / من أشجار السماء ( نظارة ) قاست الفضاء / هبّت ريح وخمدت ريح / أمتص سلك طوفان الفلسفة ( الوجود و العدم ) / إنّ ( عدم ) كامو، قد سلَّ ( سمّ ) سقراط / وغلقت عينا سارتر بتصوير ( بيكيتي ) / رفع سارتر ( سلمّ ) الوجود إلى السحاب / ديكارت، هيجل، هوسرل، ( ملكوا العدم ) / هيدجر..غارق في العدم والوجود / ألان هي لحظة سقوط لغة الوجود و العدم.... ص18)
يؤجج الشاعر مشهده الشعري في تشظّي صورته الدرامية كي يصل إلى جوهر الشعر تتويجاً للوحشة وتأريخها الشخصي المشطور إلى أثنين، تاريخ العالم، تاريخ الشعر، إنّه داخل حاضنة السرد الشعري متسّماً بالنفور من الوجود في سعي منه إلى تأثيث حكايته الشخصية مع العالم للوصول إلى تلك: ( الأبدية البيضاء ) التي يراها بمخياله الشخصي، إنّ الشاعر صلاح جلال يبني نصه الشعري من هذا الإرسال التأملّي المتمشهد في المعاني, الإقامة المضطربة داخل هذا العالم الذي يَتحرك فيه الأموات والأحياء، مع الأشباح والرموز ونقائض محتويات المداليل ومؤولات الدوال التي تنبض بالحياة والوجود والفناء ورغبة امتصاص الأبد: (إنّ هذه الأرض ماء الروح المكان الفضائي لقبل الوجود / وإنّ فضاء السيميائية فضاء مكّونات من الفلسفة / إنّ علاقة رمز تراجيديا الموت معلّقة بشجرة الفلسفة / هنا قطرة حليب فقط هي هوية لغة القبل الوجود ....ص28)
يفضي النص بخاتمة إعلانية تقريرية تكاد تختصر هذه المنظومة الحدسية الصورية التي يتحرك عبر نسغها عالم الشاعر وخطاب الشعر الفلسفي والتفلسف الشعري: (هنا أرض زراعية لفلسفة موت( الوجود والعدم )/ إنها زراعة الفلسفة / ( ) إنّها الفلسفة ( ) ( )... من الفاكس الذهني الثالث لفلسفة الموت عند مارتن هيدجر.
يتشعب النص الشعري في مجموعة ( سقوط الكون ) بين منحنيات ما وراء اللغة واللغة، والشعر حسب ڤاليري - هو لغة في اللغة، فالشاعر يؤثث مشهديته الشعرية من تناظر وتوازي وتقابل وتضاد وائتلاف واختلاف كل تلك الدوائر والخطوط والمربعات والمستطيلات، الحرف والكلمة والجملة والصورة بفرجال التخييل، فالتشكيل العبثي لهرمية النص ينحو نحو اللامألوف بقوة، والمغايرة إحدى السمات الغرائبية البارزة في تمشهد الصورة الشعرية وإيقاعها الجمالي والدلالي والفنتازي الذي يتحرك في مساحة عريضة من التشعير، هنا إذْ يتبدّى الشكل الذي يتهيكل من إرساليات الملفوظات المتجاورة في الجوهر والصوت والتشكيل والإحالة,هناك أنين ذاتي داخلي عميق يستجمع نداءات باطنية عميقة تطلب الحرية والأرض والوطن، بمرارة موجعة .. يخصّها الشاعر من المباشرة بلغته الحادة، بلغة الشكّ، الذي يرسم بفاعليته رسومات للذين يفكر بهم، بألاسئلة الإشكالية الميتافيزيقية، بجينالوجيا كلمة الوجود حسب تعبيره - ( أُشكك (..) في تلك اللحظات الأسطورية لـ ( ما وراء السؤال ) (..) / في تلك الصور التي ضاعت على لسانهم كلماتهم./ وإنّي أفكر ( بك ) و( بنا ) و ( بهم ) وبالوطن. / أرجع إلى (ما قبل الوجود ) (..) / إنّ الشجرة أيبست "الفكر" وأثمرت أوراق الطفل. من الفاكس الذهني الرابع لفلسفة الموت عند مارتن هيدجر- ما وراء الموت. ص43
إذن اللحظة الأسطورية هي التي يحلم بها الشاعر، هي المسافة الحادة بين الأرض والسماء، هي أسمى تعبير عن الوجود في صيده الممتع للشعر، في صيد الغموض وبثّ الجمالي التراكمي في الصورة، في الجمع بين لغتين، المجاز، ومجاز للمجاز حسب تعبير الشاعر الراحل محمود درويش في حديثه عن لغته الشعرية; يجهد الشاعر بقوة مخياله الشخصي لتمثل كلّ حضارة الفلسفة وآفاقها وجسورها وتناصّاتها مع كل الأجناس الأدبية والفنية، ليقلق ذاكرة وذائقة المتلقي في تقنيات وحفريات نصوصه وديناميكيتها الدلالية وتحليقاتها في فضاءات المغامرة الشعرية وغرائبية الكتابة الشعرية الجديدة وحساسيتها الحداثوية، وامتداداً للسؤال الفلسفي في مواجهة الموت يرسل الشاعر سيلاً هائلاً من الأفكار التي تتناص مع منظومة الفكر الفلسفي الكوني مخاطبا القوى الذاتية النفسية التي تفكر مثله بالكون، من جهة والتي تختلف في تفكراتها عنه: ( أشكك (..) في ذلك الظلّ والعلامة لصور(..)/ أشك في ضوء العين وبطن الشمس./ مَنْ الذي يحفر الحفريات الأركيولوجية والجينالوجية؟ الشكّ في (..) الصور الذهنية لفلسفة الموت هذه اللحظة./ وألان لدى ( ماركس ) جينالوجية الهرمونية ( لأفلاطون )... ص46)
يتشظىّ نص الشاعر جلال إلى ذرويات ومعانم تتعدد في الوصف والتوصيف، يتعالق فيها متسّع من المدى التناصي، وتتشظىّ الذات الشاعرة من فكرة المستعاد بوهج الراهن الفلسفي الوجودي حين يحوّل الشاعر العبارة من وصفيتها إلى تدوينها الوجداني في الاقتراب من حكمة زرادشت نيتشه القائلة "اكتب بدمك وستعلم أنّ الدم هو فكرك"، وإذا كانت الكتابة الشعرية الحداثية هي رؤيا، فإنها تؤسس للمدلول الأَناسي في الذاكرة للغة العميقة، (( وتتحرر من قيود اللحظة وتكرار العادة وانحباس أفق المعنى باعتماد تاريخ الكتابة ذاته واللون يعشقها القديم المتجدد مروراً بالحجر ومنها إلى الورقة )) هذه هي الرؤيا الزاخرة بدلالات رهبة المكان وانكشاف المشهد الأيروسي في فيض الحواس وتراسلها، إنّ نصّ الشاعر يمثل جسد الفكرة الذي يعي ويفكر وبحدس ويحلم باستمرار، حتى تكرار المعاني من أفعال الكينونة والاسترسال أو التحرر من الماضي الفلسفي، للانوجاد في الحاضر بكل قيمة الجمالية والانطولوجية، واتساع دائرة الفاعل، لتشمل أعمق الدوال في النفس والجسد وأبعد الرموز في التمثيل الكوني.
( أنا وأنت وهم ونحن وأولئك، مضينا فيما بعد إلى نار الفكر / الأخضر وزرقة السماء كانا لهيب فلسفة من الموت ، لهيباً من "حجر" / رموز الله ظاهرة في زرقة السماء.ص59)
ويستعيد الشاعر مشهديه الماضي في لغة شعرية تحمل بين طياّتها ألف الموجة المصاحبة لكهربة الذات الشاعرة في أقصى حالاتها الهاربة من أفق العدم: ( أنا طفل لزمن الصفر / أتيت من وطن العدم / أم أنا بذر لشخص قبل الوجود في خطوط الأسطورة / وأنا ساقط من الوجود على زمن العدم / .... أنا أمسكت منزلاً فبل الوجود ..ص63)
يكاد الشاعر صلاح جلال يقفل على سقوط الكون بأنوجاد الذاتي الشخصاني في أشعاع الصورة التي لابد مَن فَكّ طلاسمها ورموزها.
نشرت في جريدة البيان العراقية
نووسەرەکان خۆیان بەرپرسیارێتی وتارەکانی خۆیان هەڵدەگرن، نەک کوردستانپۆست