في ذكرى استشهاد فاضل رسول قبل 17 عاما
Sunday, 15/10/2006, 12:00
4909 بینراوە
تراجع المشروع الحضاري للمنطقة على ضفاف مستقبل مجهول (*)
قبل اسابيع مرّت ذكرى اغتيال، الكاتب والمفكر فاضل رسول، مؤسس مجلة (منبر الحوار) في بيروت عام 1986 .
كان الشهيد فاضل يحلُم بشرق ٍ موحّد، في مشروع ٍ حضاري يحتضن بلداننا بما فيها من تنوعٍ ثقافي، قومي، ديني، وسياسي .
وبما انه كان كردياً (ولد بالسليمانية عام 1949)، متربياً بثقافة متنوعة من كردية، عربية، وفارسية، كان قد بنى جسراً ثقافياً كبيراَ بين العوالم الثلاث وخصوصاً بين الفارسية منها والعربية .
كانت الثورة الاسلامية قد دقّت ابواب ايران لتوها عندما ترجم فاضل اعمالاً فكرية هامّة من الفارسية الى العربية كـ ((الحد الفاصل بين السياسة والدين، لمهدي بازركان)) و ((ايران غربة السياسة والثورة لبني صدر)) .
وكان قد ترجم افكار (علي شريعتي) الهادئة والرحبة الى العربية عبر تأليف له بعنوان: هكذا تكلّم علي شريعتي .
وعلى هذا المنوال ألّف كتاباً عن ايران: تاريخ الحركة الثورية في ايران. فضلاً عن كتاب مترجم عن النفط والسيطرة. بعد ذلك اضفى فاضل على تكوينه الثقافي، البعد الغربي عبر اللغة الالمانية وتأليفه فيها، اثناء اقامته في النمسا منذ عام 1975.
انشغل هذا الرجل في خلال مجلة (منبر الحوار) بطرح جملة مسائل كانت تشكل المحاور الاساسية لمشروع شامل لمنطقتنا التي تسمّى الآن بـ (الشرق الاوسط).
في مرحلة حرجة ومتدفقة، وفي غمرة صعود التيارات الاسلامية والقومية، وتراكم الازمات الاقليمية والداخلية، قام فاضل رسول بقراءة منفتحة ودقيقة لاحوال العالم المعاصر آنذاك. ولتاريخ منطقتنا التي نالت ما نالت من ويلات وحروب ودمار. وقد افضى رسول بحسب رضوان السيد في مجلة منبر الحوار عام 1989، الى ان التمايزات العرقية والدينية، والمكوّنات الاخرى موجودة منذ القدم في منطقتنا الاّ انّها تتأزم عند تدخل القوى الخارجية في شؤوننا. تألّم فاضل بشدة لتباعد تكوينات الشرق في ما بينها، وممارسة العداء والعنف تجاه بعضها البعض. فوجد ان الحوار مهما كان ثمنه هو السبيل الأجدى والأصح من الانعزال الثقافي والصراع والتصادم السياسي والعسكري. فادرك سبّاقاً، قيمة هذه الكينونة وقام في حينه -اواخر الثمانينيات- بجمع النخبة الاكثر اعتباراً في بلدان الشرق من الاسلاميين والعلمانيين والقوميين في محاولة كانت تشبه الإبحار بقارب صغير في بحر هائج. ففي عام 1989 بدأت اولى جلسات الحوار في القاهرة وشارك فيها كبار العلماء والمفكرين.
ارتكز فاضل وبوضوح منهجي على اساس إحلال السلام في المنطقة والافتداء بالصراعات والحروب الداخلية مهما كانت الاسباب والدواعي لها.
ففي نظره كانت القوى الخارجية تحاول زرع الفتن والحروب، بين تكوينات المنطقة / وأو اصطناعها وإحيائها اذا كانت خامدة. هذه العملية من لدن الخارج كانت ذات اصول متينة وامتداد تاريخي طويل، كان قد صنع تراكماً ذلّل من امكانيات الشرق في النهوض وثبّط المضي نحو مشروع حضاري شامل للمنطقة برمتها. وفي هذا المسار فتح فاضل نافذة واسعة وواضحة امام العالم الشرقي المتخلف والفوضوي، على كُردستان التي كانت قد تقسمت بين خمس بلدان عاشت - وما تزال - نكبات وويلات عظيمة جرّاء الحروب والمعارك المختلفة بين التكوينات الكردية من جهة، والأنظمة والحكومات الاقليمية من جهة اخرى. كُردستان باعتبارها البقعة الاكثر جذباً للتدخلات الخارجية والاكثر استنزافاً لطاقات بلداننا.
استغرق الصراع بين الاكراد وحكومات المنطقة في التاريخ الحديث (اي بعد سقوط الدولة العثمانية) قرناً مليئاً بالكوارث وتبيعاتها. والفارق ان الاكراد الذين بدءوا ثوراتهم من اجل الاستقلال في بداية القرن العشرين، مقاومين للاحتلال الخارجي، اصبحوا اليوم في طليعة المتحالفين مع التدخل الخارجي.
استند فاضل رسول، وخصوصاً في تأليفه عن دور المؤثر الخارجي في المسألة القومية {رسالة دكتوراه بـ الالمانية في برلين}: (تدخل القوى العظمى، الاتحاد السوفيتي والقضية الكُردية) على كمّ ٍ هائل من الدلائل والوثائق حول استخدام واستغلال القوى الخارجية للصراع الذي دام في منطقتنا باسم القومية والدينية.
ففي ما يخص الاكراد وعبر علاقة متشابكة وقلقة، قضوا عقوداً طويلة بعيداً عن الإنماء والتطور على الاصعدة المدنية من اجتماعية واقتصادية وثقافية.
وفي المقابل عانت الحكومات والدول المتصارعة مع الاكراد معاناة بلغت حداً عظيماً يمكن رؤيته بوضوح في أيامنا هذه. والحال ان الجميع وقعوا تحت ثقل تراكم سيءٍ ومريض.
فانهمك فاضل في إشعار هذه المكونات بخطورة استمرار الصراع، وتدخل القوى الخارجية وهيمنتها السياسية والعسكرية والثقافية.
فرأى من جملة ماقام بالجهاد من اجله، ان لابدّ من وقف الصراع والنزيف الداخلي في بلداننا. وكان ينظّر من اجل وحدة حضارية تحتضن التنوع والتمايزات على الأصعدة شتى، في انسجام وتفاهم.
فحرص فاضل على جمع المتصارعين من اجل الحوار، من اسلاميين وقوميين وعلمانيين من جهة، وبين الاكراد والدول التي يعيشون فيها من جهة اخرى.
وعبر مجلة (منبر الحوار) شرح امكانية الوصول الى آفاق بديلة للتخلف والإنكسار اللذين أثقلا كاهل الشرق.
انتبه فاضل مبكراً الى المخططات الخارجية الرامية الى تقسيم المنطقة، في شبكة متصارعة ومفككة في خلال دويلات صغيرة ومتناحرة لاتقوى على الاستمرار الا بمساعدة خارجية . ففي مقال له في (منبر الحوار) عام 1986 يشير الى مخطط امريكي - اسرائيلي لتفتيت المنطقة الى كيانات ودويلات. ويضرب المثال بالعراق ويقول (( تريد امريكا واسرائيل تقسيم العراق الى ثلاث دويلات : سنية وشيعية وكردية متناحرة في ما بينها)).
بعد مرور 20 عاماً على هذه المقولة الاستشفافية هذا مايحدث بالضبط في العراق.
ومن هنا عمل فاضل على ايصال روافد الثقافات المتنوعة، الى مصدر جامع بين ابناء المنطقة، الذين عاشوا مخاضات كثيرة مشتركة، اصطبغوا فيها بصبغة المصير المشترك في مسيرة حياتهم.
كان الواقع الكُردي المنقسم سياسياً - في نظر فاضل رسول - سبباً كبيراً لاستنزاف المنطقة وجعلها سوقاً نشطة للانتاج الغربي من الاسلحة والذخائر الفتّاكة، مقابل استهلاك خاسر لثرواتنا.
تقسيم كردستان (وفق المخطط الخارجي بداية القرن العشرين) بين دول الجوار، جعل من كلّ جزء لها، طرفاً معزولاً عن مركز الدولة الاقليمية. وبما ان العلاقة بين اطراف كردستان والمراكز / الحكومات كانت عدائية وقلقة فإن فرصة التدخل الخارجي كان وما يزال سهل المنال. ومع استمرار اقصاء الحكومات للمتطلبات الكُردية وإلغائها بطرائق متفاوتة، تصاعدت حدّة ردود الفعل الكُردية تجاه المراكز الى حدّ المواجهة المسلحة.
وفي الوقت الذي لم يستطع الاكراد الحصول على حقوقهم، فشلت الحكومات في جعلهم جزءاً حيوياً في الدول الاقليمية القومية. واستمرت النزاعات والمعارك في استنزاف قاتل مما حدا بالعراق في عام 1990 احتلال الكويت، الى ان تدخلت الولايات المتحدة الامريكية، ومن ثم قامت منطقة خط العرض 36 التي اصبحت في ما بعد الدولة الفيدرالية الكُردية شمال العراق. واصبحت فيدرالية كردستان المهد المؤسِّس لكيانين عراقيين اخريين: الفيدرالية الشيعية في الجنوب والسنية في الوسط.
الاّ ان ولادة واكتمال هذه الكيانات ربّما تأخذ وقتاً اطول في مخاض عسير، واستنزاف كبير.
قبل ذلك وفي تموز عام 1989، قام فاضل رسول ومن منطلق ايمان عميق بانهاء الصراع في المنطقة، وبناء مشروع حضاري مشترك، بواجب الحوار بين الحزب الديمقراطي الكُردستاني والجمهورية الاسلامية الايرانية.
الاّ ان المفاجىء كان عكس ما ذهب اليه رسول تماماً.
ففي الثالث عشر من الشهر نفسه في ذلك العام، لم تسمح المنية لفاضل ان يوصل المتحاورين الى اتفاق محمود. فقُتل هو واعضاء الوفد الكُردي برئاسة الدكتور عبدالرحمن قاسملو، بأيدي (المتحاورين) آوان غروب ذلك اليوم وبالضبط في اول ايام عيدالاضحى المبارك.
بعد سبعة عشر عاماً من مقتل فاضل رسول، تبدو افكاره وطروحاته للمشروع الحضاري لمنطقتنا، وكأنها وليدة اليوم. الاّ ان الفارق ان الفكر والطرح الفاضليين كانا بالأمس يبدوان صعبي المنال، لكنهما اليوم وفي ظل استمرار الاندحار والانكسار الشرقيين، وتتابع النزاع الدموي الداخلي بين مكوناته، وثقل التخلف الحضاري، وتراكم الفشل الاقتصادي والثقافي؛ أصبحا ضرباً من المستحيل والخيال معاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المقال منشور في جريدة النهار اللبنانية في اكتوبر عام 2006 بعنوان: حين يقتل المحاور.