ما مات العظیم مندیلا ، ما مات عظیم عظماء الإنسانیة
Friday, 13/12/2013, 12:00
أتت عظمة العظیم مندیلا ، من عظمة ایمانه الراسخ بالإنسان وحقوقه ، و بالإنسانیة ومبادئها ، وبعدالة قضیة شعبه ، وقضایا الشعوب المظلومة الاخری أجمع ، ومن إستعداده الدائم واللامتناهی للتضحیة والفداء من أجل الإنسان وحقوقه ، وفی سبیل الإنسانیة ومبادئها ، وکذالك من عظمة حبه المنقطع النظیر للإنسان المتمثل برفاقه وأصحابه فی الکفاح والنضال . حیث إنه خلال طول المدة التی کان مسجونا ، ومقیدا وراء القضبان ، ففی کل لحظة من تلك اللحظات التی کان هو بعیدا عن ساحات النضال والمواجهة ، کان یحوم هو فوق رؤوس رفقائه بروحه ، وکان معهم فی السراء والضراء بقلبه ، ویشارکهم فی الأفراح والأتراح بضمیره . وأتت عظمته کذالك من ترجمة الأقوال إلی الأفعال ، والأفعال إلی مکاسب وإنجازات .
والعظیم مندیلا ، كأی عظیم من عظماء الإنسانیة ، ما کان ولم یکن فی یوم من الأیام قط ، فی فکر العظمة ، أو وراء العظمة . لکن العظمة هی التی کانت تبحث عنه وترکض إلیه دون أن یعیرها هو أدنی إهتمامه بها ، مثله فی ذالك مثل الآخرین من عظماء الإنسانیة.
فالعظمة ، هی لیست هبة إلاهیة أو منحة من الطبیعة قط ، حسبما یعتقد البعض ، کما إنها لیست لقبا یمکن الفوز بها ، أو الحصول علیها ، أو شراؤها فی فی المزاد ، أو فی الأسواق السوداءة فی رکن معین أو فی دهلیز سری ، کما وإنها لیست صفة مکتسبة یمکن لأی کان إکتسابها ، أو حتی أن یحلم بها. وحسب إعتقادی إن العظمة ، هی حالة إنسانیة فریدة وممیزة جدا ، ونادرة ندرة مقاربة إلی لا شیئ ، نسبة إلی المجموع الکلی للعدد الإجمالی للإنسان ، کما وإنها رسالة عصر معین ، ونتیجة ظروف وأوضاع معینة تدفع بشخص ذات خصال إستثنائی ، وموهبة یمکن أن یقال عنها إنها طفرة ، فتجعل من هذا الشخص عظیما ، دون أن یطمع هو بها . فالعظمة فی الحقیقة هی مسؤولیة ینبغی علی العظیم تحملها ، وواجب علیه أداؤه والقیام به . فأساس العظمة ، یکون دوما أساسا راسخا صلدا ، قابلا للتحمل والإدامة لتعلو وتعلو، وصامدا صلبا بوجه الزلازل والأعاصیر . وهذا کله متوفر وموجود فی شخصیات العظماء.
والعظمة ، لا تنتزع بالقوة ، ولاتشتری بالمال ، کما وإنها لا یمکن الحصول علیها بالمکر والخداع ، أو بالسلب والنهب . فأبوعلاء المعری صاحب المقولة الشهیرة ( لقد جنی علی أبی ، وإننی لن أجنی علی أحد ) کان عظیما وبلا شك ، وولا یزال ، فما کان هو ملکا ولا قائدا لجیش ، ولا رئیس عشیرة ، ولا حتی رئیس عائلة ، فقد دخل التاریخ کأحد العظماء لا بسبب مقولته التی تشع الإنسانیة الصادقة منها فقط بل بسبب إصراره الشدید فی معاندة حب الذات وإستعداده التضحیة بأهوائه النفسیة ، حتی لا یکون سببا فی بؤس وشقاء اناس آخرین . وعمر الخیام المشهور والمعروف برباعیاته ، کان عظیما بحق ، وإنه لم یکن لدیه غیر مداد من القصب ولا غیر ، فإنه ما کان عظیما لأنه کان فیلسوفا وعارفا وشاعرا ذات اسلوب ممیز وخاص ، بل لأنه استطاع أن یعبر عن شخصیته الفذة بکلماته الرائعة التی کانت مرآة صافیة تعکس شخصیته الإنسانیة الحقیقیة ، وأن توصل رسالته الفریدة إلی الطغات والجبابرة وتقول لهم بأن جبروتکم وعنجهیتکم لن تفیدکم ، فمصیرکم هو نفس مصیر عبد معدم ، ولن یستطیع أحد أن یمیز ترابكم من ترابهم .
والرئیس الڤیتنامی هوشیمن ، هو عظیم من العظماء ، لا لأنه قاد ثورة شعبه وبنجاح ، وأصبح رئیسا لبلاده ، فلا القیادة ولا الرئاسة ، ما أوصلتاه إلی العظمة ، فالذی أوصل هوشیمن إلی العظمة ، هو أن هوشیمن عندما أصبح قائدا ، وعندما أصبح رئیسا ، کان نفس هوشیمن الإنسان البسیط عندما کان عاملا لتنظیف السفن ، أو عندما کان فردا بسیطا کأی فرد آخر من الثوار ، وکان هو أعظم من أن یؤثر علیه علو المنصب ورفعة المقام ، ولم یکن هناك أی شیێ فی هذه الدنیا أن یصدأ إنسانیة هوشیمن ، وأن یفسد شخصیته ، وأن یسیئ من تصرفاته ، وأن یغیر سلوکه . فهوشیمن الإنسان البسیط، کان أعظـم وأرفع وأکبر من الرئاسة ومن القیادة ، ومن کل المناصب والدرجات . فالإنسانیة ، والأصالة ، والبساطة ، والتضحیة من أجل الحریة ، وحب الناس ، وجمال الخلق والطبائع ، وحسن المعشر ، و و .... هی التی أوصلته إلی العظمة ، وجعلت منه عظیما وخالدا.
کان مندیلا هو التوأم الروحی للعظیم هوشیمن ، وإنه کان نسخة طبق الأصل منه . فکلاهما لقنا أعداءهما ، أعداء الإنسانیة ، وأعداء الحریة ، دروسا لن ینسوها . فکلتا الثورتین حققتا أهدافها وأوصلتا بشعبیهما إلی بر الأمان وانتزاع النصر .
مندیلا واوجلان
شاءت الصدف والأقدار ، رغم تباین الظروف والأوضاع ، ورغم الإختلاف فی الزمان والمکان ، أن تکون أوجه التشابه والتماثل فیما بین حیاة کل من مندیلا و اوجلان کثیرة و متباینة ، لذا لابد وأن تکون نهایة حیاة کلیهما متشابهة ومتماثلة حتما . وحینما کان الناس یشاهدون صعود العظیم مندیلا بروحه العظیمة ، وبخدماته العظیمة للإنسانیة وبکفاحه الریادی الرائد، وبرایة العظمة ، إلی عالم العظمة والخلود ، وساد الحزن والأسی الملایین منهم فی مختلف أنحاء العالم ، وعندما کان الکثیر الکثیر منهم کانوا یبکون علی رحیله بحرقة وحرارة ، ویذرفون الدموع بغزارة وسخاء . کان هناك فی بقعة منسیة ومعزولة ، فی بقعة لم تصلها قط ولحد الیوم معنی الإنسان والإنسانیة ، فی هذا العالم ، فی بققعة تسودها البربریة والوحشیة وتحکمها الغطرسة والعنجهیة ، فی بقعة تجهل معنی التمدن والتحضر ، فی بقعة لا تعرف أی معنی للقانون والعدالة ، إنسان فرید وحید ، کان حزنه وأساه علی مندیلا ، أعظم وأکبر من حزن وأسی العالم کله علیه ، هذا الإنسان هو العظیم اوجلان ، رائد الإنسانیة وحامل لوائها ، وقائد المظلومین ولسان حالهم .
کان مندیلا ، هو الإنسان الوحید فی هذا العالم ، الذی کان یفهم اوجلان ویحس به ، یشعربآلامه ویدرکها ، ویشارکه فی تحمل أعبائه . فالرجلان ، وإن کانت تفصل بینهما مسافة آلاف الکیلومترات ، إلا أنهما کانا علی الدوام فی تواصل وتخاطب متواصل ومستمر ، رغم کل الموانع والحواجز والعراقیل ، لأنهما کان همهما واحد ، کما وکان هدفهما واحد ، ألا وهو هم الإنسانیة ومصیرها ومستقبلها .
لم تکن وسیلة التواصل بین اوجلان ومندیلا بالوسائل الإعتیادیة والمتبعة ، بل کان هما علی تواصل مستمر بتماس روحی متین ، وبإحساس وجدانی عمیق . ولم تکن لغة التخاطب بینهما کانت من اللغات الدارجة بین الناس، بل کانت بلغة العظماء ، حیث للعظماء لغتهم الخاصة بهم.، لغة لا تنحصر بالزمان والمکان . إن رحیل مندیلا عن هذا العالم ،وغیابه عن مسرح الأحداث ، وترکه اوجلان وحیدا فی علم تسوده الفوضی والإضطراب ، والإنسانیة تتعرض إلی مخاطرة محدقة لا تعرف عقباها . زاد من هموم اوجلان هموما علی هموم ، وزاد من الأعباء التی علی کاهله أعباءا وأعباء . إضافة إلی کل ذالك فکان مندیلا هو عضید اوجلان الوحید فی هذه الدنیا بین زعماء العالم . فلا العجب ولا الغرابة ، فی أن یحزن اوجلان برحیل مندیلا فی هذه الدنیا ، وهذا یعنی بأن مندیلا لم یذهب من بلاده ومن شعبه فقط ، بقدر ما ذهابه من اوجلان ومن الإنسانیة جمعاء .
ما مات العظیم مندیلا ، ما مات عظیم عظماء الإنسانیة
لقد حضر فی مراسیم الوداع الأخیر لمندیلا ، وفودا من معظم دول العالم ، ممثلة بأعلی المستویات ، من الملوك ورؤساء الجمهوریات ورؤساء الوزارات و و... الخ . فإن هذا الحضور الکثیف إن دل علی شیئ فإنما یدل علی مدی عظمة مندیلا وعلی مدی علو مکانته فی قلوب الناس ، وعلی مدی أهمیة دوره وحیویته علی مسرح الأحداث للمجتمع الإنسانی ، وکذلك علی مدی تأثیر شخصیته الفذة فی المیدان السیاسی والرسمی .
فالأغلبیة الساحقة من الوفود ، حضروا إلی مراسیم الوداع خوفا من ردود الفعل من شعوبهم إن لم یحضروا ، وعلی أمل أن یساعد حضورهم علی تجمیل نظام الحکم فی بلدانهم . ولا أعتقد بأننی لعلی خطأ ، إن قلت بأن جمیعهم علی الإطلاق کانوا یحسدون مندیلا علی هذا التقدیر ، وعلی هذا التکریم والإحترام فی التودیع . وإننی اؤمن بأن معظم هؤلاء لم یتصرفوا یوما ولو قلیلا کمندیلا ، وما آمنوا ولو قلیلا بالإنسانیة وبمبادئها ، فلو کانوا کذالك لکان العالم الیوم عالما غیر هذا العالم الذی نحن نعیش فیه . وأخیرا ولیس اخرا ، سمعت یوما أحدا ، شبه مندیلا ودوره علی مسرح الأحداث بقوله " ظهر مندیلا کشهاب أضاء سماء أفریقیا لبرهة وجیزة ثم اختفی بسرعة " ، ولو قول هذا القائل فیه نوع من الشاعریة والتصویر الرائع والجذاب ، إلی إننی لست معه فیما ذهب إلیه ، وأعتقد بأنه لم یکن ناجحا فی وصف مندیلا وصفا دقیقا ، کما وإنه لم یمنحه حقه حقا . وإننی اؤمن جازما ، بأن دور وتأثیر العظیم مندیلا علی مسرح الأحداث سیکون أکثر بکثیر عن الشهاب ، وعن فیما مضی ، فمراسیم الوداع منح مندیلا مرکزا إنسانیا فریدا وبلا مثیل ، ولا یمکن لأحد ، أو لأیة جهة أو طرف الوقوف بالضد منه أو التقلیل من قدره . کما وإن محبی الإنسانیة وعشاق مبادئها فی ازدیاد واطراد عجیب ، فمن الآن وصاعدا سیجعلون من مناسبات أیام میلاد مندیلا ، وخروجه من السجن، وتسنمه رئاسة الجمهوریة ، ویوم وداعه ، مناسبات جماهیریة وإحتفالات شعبیة لإحیاء مندیلا ، وکفاح مندیلا ونضاله ، والطلب من الأنظمة القمعیة والشمولیة للرضوخ لمطالبهم الإنسانیة . وهذا یعنی بأن العظیم مندیلا ما مات ولم یمت ولن یموت قط ، علما عندما کنت اشاهد مراسیم الوداع ، کنت أعتقد بأن الحاضرین فی مراسیم الوداع کلهم أمواتا ، ومندیلا هو الحی الوحید بینهم .
ســـیدنی ـــ اســــــترالیا
١٤ / ١٢ / ٢٠١٣
نووسەرەکان خۆیان بەرپرسیارێتی وتارەکانی خۆیان هەڵدەگرن، نەک کوردستانپۆست